عن كتاب: القديسون المصريون ـ د. بول شينو دورليان
إذا كانت الكنيسة المسيحية فى العالم تعتبر القديس أنطونيوس الكبير بحق أباً للرهبان فى كلالشرق والغرب، فإن القديسة سينكليتيكى تعتبر بدورها أماً للراهبات اللواتى بهرن العالم بقداستهن ونسكهن. وقد عاشت القديسة السنوات الأولى من عمرها فى مقدونيا قبل القدوم إلى الإسكندرية مع أهلها الأثرياء المؤمنين، الذين جذبتهم سير آباء كنيسة الإسكندرية. كانت القديسة سينكليتيكى تتمتع ـ بالإضافة إلى الإيمان والتقوى ـ بثراء كبير وجمال باهر، جذب أنظار الخاطبين الأثرياء.. إلا أنها نبذت العالم وبعد فقدها لأخويها الوحيدين انفصلت عن كل ما يربطها بالعالم، ولم يعد لها أى اهتمام بالحياة المُترفة.
عاشت القديسة سينكليتيكى وهى لم تزل فى كنف والديها حياة النسك والعبادة، حتى تنيح والداها.. فقامت ببيع أملاكها ووزعتها على الفقراء والمحتاجين. ثم تركت قصرها وأخذت أختها الصغرى، وهى كل ما كان لها من أسرتها، وذهبت لتعيش فى مدفن أسرتها بمدخل المدينة. واستمرت فى متابعة حياتها الروحية وعبادتها المستمرة لسنوات طويلة دون أن يشعر بها أحد، إلى أن بدأ الناس يكتشفون مكانها. وسرعان ما بدأت الزيارات تتوالى عليها من صديقاتها القدامى، واللواتى بدأ بعضهن فى أن يلتحقن بها أو يتمثلن بحياتها.. فمكث بعضهن بالمقابر مثلها، ومنهن من اعتكف فى ديارهن وعشن فى حياة النسك والعبادة الحارة. وكن يعتبرنها مرشدتهن فى الصوم والصلاة.. فكانت مثالاً صالحاً لتلك الراهبات.
وكانت مصدر إعجاب الناس كافة، بسبب فضائلها وقداستها، وزُهدها فى العالم كله.. فكانت تنصح تلميذاتها بضرورة اللجوء إلى الصلاة وقمع الجسد، والعفة الكاملة، والفقر الاختيارى الذى لا يدع مجالاً للتجربة بعكس الثراء الذى يُسهل للإنسان الميل إلى المتعة ورفاهية الجسد، والتنعم الذى يقود إلى الشهوة والبُعد عن الله. فكانت ترشدهن وتقودهن فى حياة النسك عن معرفة واختبار حى. وكانت قد بدأت حياتها الرهبانية بأن طلبت من قس مُسن ـ وكان موضع سرها ـ أن يقوم بقص شعرها كعلامة على تركها العالم. وصارت تقمع جسدها وتقاوم المحاربات الشيطانية بأن تنام على الرخام البارد طوال الليل، وتكتفى بالخبز والماء فقط لقوتها اليومى.. وعاشت على هذا الترتيب حتى بلغت الثمانين من عمرها.
وفى هذه السن المتقدمة أصيبت بمرض فى كل جسدها. وكانت تعانى آلام مُبرحة، أعقبتها جروح متقيحة، فى كل وجهها. فقد ضُربت بداء السرطان فى شفتيها وفمها وصار لحمها يتساقط وفقدت أسنانها وتفتت عظام فكها وانتشر المرض فى حلقها ورقبتها. واستمرت على هذا الحال لمدة ثلاث سنوات ونصف. وهى لا تشكو بل كانت شاكرة الرب فى كل حين متقبلة التجربة القاسية بصمود الإيمان الثابت، إلى أن أصيب جسدها كلـه بالمرض اللعين فامتنعت عن الأكل والنوم فى الشهور الثلاث الأخيرة من حياتها.
وقبل نياحتها بثلاثة أيام رأت رؤيا سماوية وإذ بملائكة نورانيين وعذارى حكيمات ينزلن من السماء، ويدعونها لأن تصعد معهن. وبعد هذه الرؤيا تبدلت هيئتها وأصبح وجهها وجسدها محاطين بهالة من النور السماوى العجيب وفقدت إحساسها بمن حولها، وظلت فى حالة من الفرح الإلهى إلى أن دخلت بسلام إلى الفردوس.
وقد كرمها القديس أثناسيوس الرسولى وأقام لها جنازة مهيبة. وهو الذى كتب سيرتها ممثلاً إياها بأيوب الصديق، لتحملها آلام المرض الذى لا يُحتمل، بصبر وإيمان.
بركة صلواتها تكون معنا آمين.
من أقوال الأم سينكليتيكى
عن كتاب: أقوال الآباء الشيوخ
قالت الأم سينكليتيكى: يكثر فى البداية التعب والجهاد عند الذين يتقدمون نحو الله، لكن بعد ذلك يغمرهم فرح لا يوصف. وهم كالذين يريدون إشعال النار، يلفحهم الدخان فتدمع عيونهم لكنهم يبلغون إلى ما يرومون، لأنه يقول: "إن إلهنا نار آكلة" (عبرانيين 12: 29) هكذا يجب علينا أن نُضرم النار الإلهية بدموع وأتعاب. وقالت ايضاً: يجب علينا نحن الذين اخترنا هذه المهمة أن نقتنى التعقل الأسمى، لأن التعقل يبدو طريقاً صحيحاً لنا ولأهل العالم أيضاً. لكن يرافقه جهل بسبب ارتكاب الخطية بكل الأحاسيس الكثيرة الأخرى. فى الحقيقة أمثال هؤلاء لا يرون كما يجب، ولا يضحكون كما يليق.
وقالت أيضاً: كما تبعد الأدوية القوية الحادة الوحوش السامة، هكذا تبعد الصلاة مع الصوم الفكر الشرير.
وقالت أيضاً: لا يغريك تنعم أهل العالم الأغنياء كما لو أن فيه شيئاً ثميناً بسبب اللذة الجوفاء. أولئك يوقّرون فن الطهى، أما أنت فبالصوم عن الأطعمة تسمو فوق لذائذ وطيبات أطعمتهم، لأنه يقول: "إن النفس التى تحيا بالتنعم، تهزأ بالشهد" (أمثال 27: 7). لذا لا تشبع من الخبز ولا ترغب الخمر.
سُئلت المغبوطة سينكليتيكى: هل عدم القنية هو صلاح كامل؟ قالت: إنه الأكمل عند من يقدر، لأن من يحتمله يزرع فى جسده حزناً، إلا أنه يزرع فى نفسه سروراً وراحة. فكما أن الثياب الخشنة عندما تداس وتدلك بعنف تنغسل، هكذا النفس القوية، تتقوى أكثر بالجوع الطوعى.
وقالت أيضاً: إذا كنت تعيش فى شركة، لا تُغير مكانك، لأنك بذلك تتأذى كثيراً. فى الحقيقة كما أن الدجاجة عندما تغادر البيضة، تهملها، هكذا حال الراهب أو العذراء، عندما ينتقل من موضع إلى آخر، يفتر وتنطفئ جذوة الإيمان فيه.
وقالت أيضاً: كثيرة هى مكائد العدو. ألم يغلب النفس بالجوع فيقدم لها الغنى مأكلاً؟ ألم يحقق ذلك بالشتائم والتوبيخات؟ يلقى المدائح والمجد، لكن عندما ينغلب بالصحة والعافية، فإنه يُسقم الجسد. وبما أنه قد فشل فى خداع النفس باللذات، يحاول ان يجعلها تنحرف بالآلام غير الطوعية، فيسبب آلاماً لا تُحتمل، يُعكر بها محبة الله عند قليل الاهتمام فيضرب الجسد بالحمى، فيشقى بالعطش الشديد. وإذا أصابتك هذه وانت خاطئ، تذكر العذاب الآتى والنار الأبدية والعقوبات القضائية ولا تبالى بالحاضرات. وافرح لأن الله قد تفقدك. وليكن القول التالى على لسانك كل حين: "أدباً أدبنى الرب وإلى الموت لم يسلمنى". (مزمور 117: 18) كنت حديداً، لكنك بالنار تطرح الصدأ. وإذا كنت باراً وضربك المرض، فإنك تنتقل من الكبيرات إلى الأكبر. هل أنت من ذهب؟ إلا أنك بالنار تصبح أكثر حنكة وخبرة. هل علق فى جسدك روح شرير؟ ابتهج وافرح، وانظر من تماثل. لقد أُهلت لحظ الرسول (2كو 12: 7). هل تُمحص بالنار؟ هل تؤدب بالعذابات؟ أنظر ماذا يقول الكتاب الطاهر: "لقد جزنا النار والماء لكنك أخرجتنا إلى منتجع الراحة" (مزمور 65: 12). وإذا كنت قد اختبرت الأول، أنتظر الثانى. وإذ تتمم الفضيلة ردد كلمات القديس: "أنا بائس ومتألم.." (مزمور 68: 3). إلا أنك ستصبح كاملاً بالضيقات الكثيرة والمختلفة، لأنه يقول: "لأنك فى الحزن فرجت عنى.." (مزمور 4: 20). فلننسك فى نفوسنا وفقاً لهذه الرياضات، فالخصم أمام أعيننا على الدوام