ليس كل ما يلمع ذهباً:

ليس كل ما يلمع ذهباً:

ما أن تجلس إلى واحد من خدام هذه الأيام حتى يبادرك، وقد علت وجهه إبتسامة مزهوة : أنه يشكر الله الذى عمل فى عذا الجيل، والذى أصبح يعرف طريقه للأديرة ويجد متعته فيها !!، ويدلل لك على ذلك بحجم الرحلات التى تكاد تكون يومية .

فما أن تمر بجوار بوابة الدير حتى تجد سيارات الرحلات الكبيرة متراصة فى شبه مظاهرة أمامه، وما أن تدلف إلى داخل الدير حتى تخال نفسك وكأنك قد ضللت الطريق إلى واحد من اسواق المدينة الكبيرة؛ عشرات يتحركون فى كل اتجاه بغير هدف، المضيفة إنقلبت إلى " حلبة مصارعة " فهؤلاء يتنادون طالبين خبزة وغيرهم يصرخون فى الأخ المكلف بخدمة الضيافة طالبين مشروباً ساخناً !!.

وآخرون يتحلقون حول طبق " الفول " وكأنه أول عهدهم به.. وهكذا يختلط الحابل بالنابل !!.

وأذكر يوماً غير قريب قصدت فيه دير الأنبا بيشوى العامر ببرية شيهيت ـ وادى النطرون ـ وقد أُخذت بذلك الزحام الذى لم أعهده بكنيستى ...وبعد انتهاء القداس والإفطار، جلست بجوار أحد آباء الدير، كان فى عقده الخامس، رحت فى فرح غامر ـ وقتئذ ـ اتجاذب معه أطراف الحديث وأُثنى على هذه الجاذبية التى صارت للأديرة، خاصة للشباب من الجنسين، ورحت أؤكد له أن روح الآباء قد وجدت طريقها إلى الأجيال المعاصرة بعد طول جفاء ... يبدو أنه، بخبرة السنين، كان له رأى أخر.. لم يقله ..إنما بادرنى بسؤال :

ـ أبمفردك جئت إلى هنا ؟.

ـ لا ياأبى، بل معى زوجتى وطفلاى مريم ومرقس .

ـ وهل أفطرتم ؟.

ـ نعم ياأبى .. إنه طعام عجيب لم نتذوق مثله قبل اليوم !!.

ـ وأين طفلاك ؟.

ـ يمرحان متمتعين بالدير فى غير خوف .

وأردت أن أحيط كلامى بشئ من وحى المكان، فأردفت : .. وهذا كله فى جو محاط بعطر القديسين وحمايتهم حتى يشبا وقد استقر فى وجدانهما حب القديسين ..

وكأنه لم يسمع .. أو لعله سمع ولم يرق له تحليلى هذا، وواصل كلامه معى :

ـ إذن أنت قد أتيت بأسرتك .. هه .. صليتم معاً .. أكلتم .. فرح أولادك فى مكان آمن .. فسحت المدام .. يعنى الزيارة أرضت جميع الأطراف وريحتك من زن ولادك ومراتك !! ولم تتكلف سوى المواصلات .. هه ..

وقبل أن استحضر الكلمات التى أرد بها عن بركة المكان، والراحة الروحية، والإمتلاء، وعشرة القديسين ...و ... إذا به يختم حديثه معى بكلمات قليلة هامساً : لا بأس .. لا بأس .. إنها أرخص فُسحة !! ولم يزد .. قام لتوه قاصداً قلايته .

لم يعلق فى ذهنى منه إلا خيالات من ملامح هادئة وكلمات مصوبة مقتضبة ولحية بيضاء إلا من شعيرات سوداء قليلة تستعد للرحيل، وشئ من الأسى يكسو ملامحه ويغطى كلماته !! .

أما أنا فلم أستطع أن أترك كلماته تعبر ... إستوقفتها .. رحت ابحث فى فحواها ومراميها . مازلت على هذا الحال رغم مرور كل هذه السنين !!.