كانت حياته كلها آيةللمحبة، ولم تستطع أقسى المعاملات التي عومل بها من الكتبة والفرِّيسيين والكهنةورؤساء الكهنة أن تُفقده شيئاً من محبته؛ بل ولم تستطع خيانة التلميذ الذي عاش معهثلاث سنوات أن تجعله يفتر في محبته. وهو حينما علم أن ساعته قد جاءت، جلس إلىتلاميذه ليأكل معهم الفصح. كان فيهم يهوذا والثلاثون من الفضة في جيبه، وفيهم بطرسالذي سيُنكره بعد ساعة، وبقية التلاميذ الذين سيتركونه ويهربون جميعاً! وهو عالمٌبكل هذا، وبالرغم من ذلك جلس يُحدِّثهم عن محبته لهم، وكيف أنه سيذهب ليُعدَّ لهممكاناً ثم
يأتي ليأخذهم!
كان قلبه مُثقَّلاًبالحزن، ولكنه كان مملوءاً بالحب!
نظر إلى صالبيه ونظرإلى قلبه، فوجد قلبه يتسع لهم جميعاً!
فطلب لهم المغفرةوأعطاهم دمه الذي سفكوه ليشربوه فيحيوا!
كان أول عمل اهتم بهبعد قيامته هو مقابلة بطرس ليؤكِّد له أنه لا يزال يحبه بالرغم مما حدث!! وأعطاهمفاتيح ملكوت السموات كبقية إخوته تأكيداً لصفحه عن إنكاره له، وأوصاه أن يُثبِّتإخوته، ويرعى غنمه، كأنما لم يحدث شيء!! بيَّن له المحبة، أنها ليس فقط تصفح فحسب،بل وتشجِّع وتكرِّم أيضاً.
كانت آخر وصية خرجت منفمه: «هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً» (يو 15: 12)، ثم عاد فكررها: «بهذاأوصيكم حتى تحبوا بعضكم بعضاً» (يو 15: 17). وكانت آخر صلاة قدَّمها من أجلناجميعاً هي هذه: «وعرَّفتهم اسمك، وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به،وأكون أنا فيهم» (يو 17: 26).
قال الرب يسوع هذا وخرجمع تلاميذه إلى عَبْر وادي قدرون حيث كان هناك بستان، دخله هو وتلاميذه، وكان يهوذامُسلِّمه يعرف الموضع.
وإن كانت البشرية تعتزبكلام المسيح ووصاياه، فهذه أعز الكلمات والوصايا، فهي آخر وصية لنا، وآخر صلاة منأجلنا التي بعدها ذهب المسيح وأكمل واجبات المحبة على الصليب.
أول ثمرة:
ولقد وقعت حبةالحنطة وماتت لتأتي بثمر كثير، وكان اسطفانوس رئيس الشمامسة أول شهيد للمحبة، لأنهكان أول شاهدٍ لها.
لقد وقف اسطفانوس بينالمشتكين عليه في مجمع رسمي أمام رئيس الكهنة وشهد للمسيح الذي أحبه. ولم يعبأبصرير أسنانهم أو حنق قلوبهم، ولا للضربات القاتلة التي كانت تنهال عليه. ولما أحسأنه لم تَعُد فرصة أخرى أو قدرة على الكلام والشهادة، صرخ بصوت عظيم: «يا رب لاتُقِم لهم هذه الخطية» (أع 7: 60). فكانت حياته شهادة للمسيح وموته شهادةللمحبة!
شهادة الذي أنكر:
هذا بطرس، الآن قدملأت المحبة قلبه، واشتعلت الحياة كلها بحب سيده، فقد كان شاهداً لآلام المسيح حسبقوله: «أنا الشيخ رفيقهم، والشاهد لآلام المسيح، وشريك المجد العتيد أن يُعلَن» (1بط 5: 1). بطرس أعطى وصية مثل سيده ولكنه شدَّد فيها على المحبة، لأنه رأى ضحيتهاوذاق ثمرتها: «طهِّروا نفوسكم في طاعة الحق بالروح للمحبة الأخوية العديمة الرياء،فأحبوا بعضكم بعضاً من قلب طاهر بشدة» (1بط 1: 22).
هذا هو بطرس الذي لماأرادوا أن يصلبوه رفض أن يُصلَب كسيده، بل طلب أن يصلبوه مُنكَّساً!! لقد دخلتالمحبة قلبه، وانسكبت في أحشائه بعمل الروح القدس، فحوَّلت الإنكار إلى إصرار،والهروب إلى استشهاد!
حبيب المحبة:
يوحنا الرسول حبيبالمحبة، عاش رسولاً للمحبة، يُنادي بها حتى آخر نسمة من حياته! كتب رسالة كاملة عنالمحبة، ولما أراد كتابة رسالة ثانية كتبها عن المحبة، وكتب رسالة ثالثة فكانت عنالمحبة أيضاً!
ظل يعظ شعبه بأفسس عنالمحبة، حتى ملَّت الجماهير وطلبوا منه أن يقول لهم كلاماً جديداً، فقال لهم: ”وصيةجديدة أقولها لكم: أحبوا بعضكم“. وفي أواخر أيامه كانوا يحملونه إلى الكنيسة ليقولكلمة واحدة هي هي: ”أحبوا بعضكم“. أراد يوحنا أن يُكرِم المحبة، فلم يستطع أنيُكرمها بأكثر من أن يضعها بعد كلمة ”الله“: ”الله محبة“.
مُضطهِد المحبة:
+ «شاول شاول،لماذا تضطهدني؟...
مَن أنت ياسيد؟...
أنا يسوع الذي أنتتضطهده» (أع 9: 5،4).
ومن هذه اللحظة صارشاول ”بولس“ أسير المحبة. وبدل أن كان ينفث تهديداً وقتلاً لتلاميذ الرب، صار قلبهيذوب محبة ورِقَّة: «ماذا تفعلون؟ تبكون وتَكْسِرون قلبي، لأني مستعدٌّ ليس أنأُربط فقط، بل أن أموت أيضاً في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع» (أع 21: 13).
جعلته المحبة يحترقلأجل الآخرين: «مَن يضعف وأنا لا أضعف! مَن يعثُر وأنا لا ألتهب» (2كو 11: 29)! وقدامتزجت به المحبة من نحو اليهود الذين رفضوا المسيح إلى درجة جعلته يشتهي أن يكونمحروماً من المسيح وهؤلاء يؤمنون: «أودُّ لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجلإخوتي أنسبائي حسب الجسد...» (رو 9: 3).
ثم عاد يقول إنه لا شيءيفصله عن المسيح متحدِّياً العالم والشيطان وكل قوة في الأرض وفي السماء حتىالمستقبل المجهول: «مَن سيفصلنا عن محبة المسيح. أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أمعُري أم خطر أم سيف؟!... فإني متيقِّن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساءولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أنتفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا» (رو 8: 35-39).
نظر بولس إلى أعماق كلالناس، بل أنفس الناس، فوجدها ميتة إذ كانت عادمة من المحبة. نظر إلى الإيمان،فوجده لا شيء بدون المحبة. ورأى فلسفة الكلام إذاوصلت إلى حكمة الملائكة، فهي بدون المحبة جهالة. وكل نبوَّة ومعرفة الأسرار، هيبدون المحبة كذب ورياء. وكل تضحية حتى إذا بلغت التخلِّي عن جميع الأموال وتقديمالجسد للاحتراق، فهذه أيضاً بدون المحبة لا تنفع شيئاً (1كو 13: 1-3).
هذا هو شاول لما ذاقالمحبة! أو هذه هي المحبة لما مسَّت شاول!