ولهذا كان اصطلاح " عقائد " عند آباء الكنيسة الرسوليين يستعمل للدلالة على المباديء الأخلاقية التي يجب أن تتكيف بموجبها حياة المسيحيين وكذلك على حقائق الإيمان التي وردت في الإعلان الإلهي . لكن تدريجياً اعتباراً من كليمنضوس الإسكندري وبصورة رئيسية في القرن الرابع اقتصر استعمال اصطلاح "عقائد" على حقائق الإيمان تمييزاً لها عن الوصايا.
أما بالنسبة لدور المجامع المسكونية السبع في صياغة العقائد، فنلاحظ أن هذا الدور قد اقتصر تقريباً على تأكيد إيمان الكنيسة في ألوهية الابن والروح القدس والتشديد على وحدة شخص الرب يسوع وتمام طبيعته الإلهية والإنسانية . معنى هذا أن المجامع لم تحدد سوى قسم من العقائد التي تؤمن بها الكنيسة ، في حين بقي قسم كبير آخر في تراث الكنيسة ووجدانها العام ، يتسلمه آباء الكنيسة ورعاتها، ويعلموه كلاماً وحياةً جيلاً بعد جيل، كالتعليم عن الكنيسة نفسها والأسرار والنعمة الإلهية والتدبير والمجيء الثاني ... الخ.
المفهوم الأرثوذكسي للعقائد
بناءً على ما تقدم نستطيع القول أن للكنيسة طريقتين للصياغة إما عبر تقليدها وتعليمها العام، وإما في المجامع المسكونية بشكل رسمي ومحدد. وليس من الضروري لكي نؤمن بعقيدة ما أن تكون مصاغة بالطريقة الأخيرة. وكما لاحظنا فانعقاد المجامع لم يكن غرضه صياغة العقائد بحد ذاتها بل هو مجابهة تدبيرية لظروف طارئة كالمنازعات والهرطقات إلخ ... أكبر دليل على هذا القول ، هو ان جميع ما نؤمن به من عقائد كان معروفاً ومعاشاً في فترة القرون الثلاثة الأولى ، أي قبل أن ينعقد أي مجمع مسكوني ، وقد نُقِل إلينا بالتقليد " التسليم " . ولهذا فالعقائد بالمعنى الواسع للكلمة هي كل الحقائق الإيمانية التي علّمها التسليم ( الكتاب والتسليم الشفهي )، وبالمعنى الضيق للكلمة هي العقائد المثبتة في المجامع المسكونية وفي المجامع المكانية التي قبلتها المجامع المسكونية.
ما يهمنا في الأمر هو أن الكنيسة الأرثوذكسية ترفض أن تعلن عقيدة أي تعليم ليس له أساس في الكتاب والتقليد، مهما بدا هذا التعليم مقنعاً ومنطقياً ، لأن العقيدة ليست نتاجاً لفكر بشري بل هي حقائق إيمانية تتجاوز حكمة هذا العالم ومنطقه، كونها حقيقة الألوهة ذاتها التي أعلنت للبشر بحسب إمكانية قبولهم من أجل خلاصهم . ولذلك فلا مجال على الإطلاق لإضافة أي عقيدة جديدة إلى ما أعلن سابقاً أو حتى قبول أية فكرة توحي بإمكانية وجود تطور في حقيقة العقائد. فهل حقيقة الثالوث الأقدس مثلاً يمكن أن تتطور ؟ وهل شخص يسوع يمكن أن يتغير؟ أكثر من ذلك، هل أن ما اعلن لنا عن هاتين العقيدتين يمكن أن يزداد ويتسع مع الأيام ؟
وهنا يجب أن نميز بين العقيدة كجوهر وفحوى، أي كسرّ فائق الإدراك والذي هو موضوع إيمان، وبين الصياغة الخارجية التي تعتمد على الكلمات والصور اللغوية من أجل تقريب الحقائق المعلنة إلى أذهان وقلوب الناس . وبدون ادنى شك فإن هذه الصياغة المؤلفة من مصطلحات لغوية بشرية بحتة، والمكتوبة بأسلوب مشابه لطريقة تعبير العصر الذي كتبت فيه، لا تستطيع بطبيعتها المخلوقة النسبية إن تعبر عن حقائق إلهية غير قابلة للإدراك، ومع ذلك ولأن هذه الحقائق الإلهية موجهة لكل البشر، كان لا بد أن تكتب بلغتهم إنما بمساعدة الروح القدس الماكث في الكنيسة ( يو14: 17 ) والمرشد إلى جميع الحق ( يو 16: 13 ) . ومن هنا فلهذه التحديدات العقائدية المجمعية أهمية كبرى لأنها تضع الإنسان في القنوات السليمة التي تساعده على الإيمان بهذه العقائد بطريقة أقرب ما يمكن إلى الصواب، وبدون أن تُلزمه في تعليمه أن يستعمل العبارات ذاتها التي اختارها آباء المجامع . لا بل من المفضَّل أن ننقل دائماً الحقائق الإلهية بأساليب متجددة حية، ولكن دون تغيير في فحواها وجوهرها. لأن تحديد المجامع المسكونية لبعض العقائد لم يكن لتجميدها وحصرها ضمن قوالب معينة . وإنما لقطع الطريق أمام الهراطقة في تحريفهم للإعلان الإلهي ونشر تعاليمهم المغلوطة. باختصار ما هو قابل للتطور في العقائد هو فقط وسائل التعبير وليس البتّة جوهر الإيمان.
الهدف من دراسة العقائد
العقائد هي حقائق الإيمان المعلنة، أما سبب إعلانها فهو الخلاص والحياة في المسيح ، وقد أعطيت للإنسان لا لكي يستخدمها في أبحاث جدلية، أو ليجعلها مجرد مادة نظرية للدراسة وإنما لكي تقوده نحو الشركة مع الله " الذي رايناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا، واما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح " ( 1 يو 1: 3 ). غاية هذه الشركة التي تتم في كنيسة المسيح هي تأله أعضائها المجاهدين واتحادهم الأسمى مع الله. لهذا رفضت الكنيسة وترفض أن تتساهل أو تساوم على قبول أي انحراف عن العقيدة الحقيقية مهما بدا ذلك في نظر الناس تافهاً، لأن أية عقيدة معلنة هي مرتبطة ارتباطاً صميماً مع قضية خلاصنا وتألهنا " تعرفون الحق والحق يحرركم " ( يو8: 32 ) . هذا يوضح سبب صراع الآباء المستميت ضد الهراطقة وتعرضهم للتعذيب والاستشهاد ، لا عن تحجر وتعصب ، وإنما لكي يحافظوا على الوديعة سالمة من أجل حياة وخلاص المؤمنين. لهذا سيكون هدفنا من دراستنا للعقائد محاولة للتعرف على إيماننا المسيحي القويم كما بشّرت به كنيسة المسيح وعاشه وسلكه آباؤها كي يتعمق فينا حافز التعرف على الإله الحي موضوع هذا الإيمان وبالتالي تسليم نفوسنا له واتبّاعه في حمل صليبه والصعود وراءه في طريق الكمال الذي أراده لنا، لكي تكون لنا الحياة وتكون لنا أوفر ( يو10: 1 ).
المقارن
نضيف عادةً صفة " المقارن " على مادة ما، لكي ندل على أنها تختص بمقارنة اتجاهات مختلفة تتعلق بهذه المادة. كأن نقول مثلاً علم الأديان المقارن فنعني به مقارنة بين الخصائص التي تميز الأديان ، أو علم الليتورجيا المقارن ونعني به المقارنة بين الليتورجيات المختلفة للكنائس ... الخ
من هنا فاللاهوت العقائدي المقارن هو المادة التي تقارن بين الفروقات العقائدية للكنائس أو الفرق المسيحية، وغالباً انطلاقاً من وجهة نظر معينة.
ومما يجدر ذكره أن الألفاظ التي تستعملها كليات اللاهوت المسيحي مكان كلمة " مقارن " تتشابه جميعها تقريباً رغم اختلاف لغاتها ، مثلاً {symbolique, simbolica συμβολικη , symbolic, }
لأنها تشتق من كلمة συμβολον الإغريقية والتي لا تعني مقارن ، بل الرمز أو العلاقة التي يُعبَّر بها عن شيء أو يتعرف بها عليه، كالشعارات أو الإشارات أو كلمات التعارف التي عند الجيوش مثلاً
في المسيحية يمكن أن تعني هذه الكلمة اليونانية ليس فقط رموزاً كالسفينة أو السمكة أو إشارة الصليب بل وحتى أسرار الكنيسة ( انظر مثلاً كتابات القديس ديونيسيوس الأريوباغي ) لأنها علامات منظورة للنعمة غير المنظورة ، وكذلك دساتير الإيمان والتي يرجع إليها هذا الإشتقاق. لأن ( συμβολα أو συμβολικα βιβλια ) بحسب معناها الحديث هي الدساتير أو اعترافات الإيمان أو الكتب الخاصة التي تميز الطوائف أو الفرق الكنسية المختلفة، إذ صيغت فيها التعاليم المسيحية وشُدِّد فيها على النقاط الخاصة التي تميز الطائفة أو الفرقة المعينة. من هنا نفهم سبب تسمية بعض الكتب القديمة المترجمة في اللغة العربية للاهوت المقارن باللاهوت الدستوري.
لكنيسة الروم الأرثوذكس
وغني عن التعبير أن كلمة " أرثوذكسية " والتي تُشتقّ من الفعل ( δοκω و ορθως ) وتشير إلى الإيمان المستقيم أو الحقّ، ليست بالنسبة إلينا شعاراً لطائفة معينة يميزها عن بقية الطوائف ، بل هي طابع الكنيسة الأولى الجامعة التي حافظت على استقامة التعليم الرسولي، واستمرارية الحياة بالروح القدس، كونها الكنيسة ذاتها التي أسّسها الرب يسوع على صخرة الإيمان الحقّ بابن الله الحيّ المتجسّد والباقي معها للأبد.
أما بخصوص كلمة " رومان " فقد أُطلقت غالباً على رعايا الكنائس القديمة الخمس ( روما، القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكية وأورشليم ) لأن هذه المدن كانت المراكز الكبرى الإدارية والروحية للإمبراطورية الرومانية وهي لا تعني بالضرورة أن أبناء هذه الكنائس هم رومان أو يونانيون بل تدل على أنهم ، بالرغم من انتمائهم إلى قوميات مختلفة، قد تبعوا إيمان الكنيسة الجامعة التي كانت حينها ضمن إطار الإمبراطورية الرومانية. وقد ازدادت الحاجة إلى استعمال هذه الصفة " رومان ، روم " بعد استقلال الكنائس الشرقية القديمة والتي أخذت إلى حدّ ما طابعاً قومياً كالكنائس الآشورية والسريانية والقبطية والأرمنية والحبشية ... الخ فكل من لم ينتسب إلى هذه الكنائس وبقي على إيمانه بكنيسة الإمبراطورية الرومانية أي كنيسة المجامع المسكونية السبعة ، التي عقدت بمبادرة أباطرتها وعلى نفقتهم، سمي " رومانياً أو رومياً " تمييزاً له عن أبناء الكنائس المذكورة.
ومن المعلوم أن المراجع القديمة بما فيها العربية كانت تسمي رومان القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية روم ( ρωμηοι , ρωμαιοι ) تميزاً لهم عن رومان القسم الغربي من الإمبراطورية، في حين سماهم الغربيون منذ القرن التاسع Greek وفيما بعد بيزنطيين لكي يبعدوا عنهم الإنتماء إلى الإمبراطورية الرومانية ويحنفظوا بها لأنفسهم . والواقع أن الغربيين هم الذين تغرّبوا عن هذه الصفة بعد احتلال القبائل الجرمانية ( الغوت والفرنك واللومبارديين والأنكلوساكسونيين ... ) للغرب واندثار الحضارة الرومانية فيه وفصله عن القسم الشرقي وبالتالي إبعاده عن منابع التقليد اللاهوتي الرسولي.
ما يهمنا نحن هو التشديد على أن كلمة " روم " لاتعني انتماءً قومياً بل هي بالنسبة إلينا الآن انتماء حضاري وختم أصالة ، كون " الرومانية " بشكل خاص هي البيئة التي أخذت فيها الكنيسة طابعها الثقافي والحضاري الأول ، إذ استعمل الرسل والآباء والشعراء الملهمون والمصورون المبدعون التعابير اللغوية والاصطلاحات الفلسفية والأصول الشعرية والموسيقية والتصويرية التي كانت شائعة في تلك البيئة. والتي جمعت تأثيرات من مختلف الحضارات المنضوية تحت لواء الإمبراطورية الرومانية كاليونانية والرومانية والآرامية والمصرية ... الخ. وهكذا مع الزمن صار للكنيسة أدبها المميز باصطلاحاته المسيحية الخاصة ، وأيقوناتها بأسلوبها الفني الروحاني، وطقوسها بأصولها الشعرية وموسيقاها الموحية، والتي تشكل جميعها تقليدها الرسولي الكنسي وتعبّر عن حياتها المتجددة ، أو عمل الروح القدس فيها عبر التاريخ من خلال هذه الأطر الحضارية. الأهم في صفة " روم " إذن ليس مجرد غنى وروعة التراث الحضاري الرومي الذي ننتمي إليه، بل الحياة الإلهية التي تحملها تعابير تساعد المؤمنين على التخشّع وتضعهم في تيار روح الله الذي عاشه مؤلفوها القديسون الملهمون.
مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع 3:35)